كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا ريب في أن قوى خارجية تكمن وراء هذا النشاط وتغذيه.. وفى هذه الصحائف نريد أن نواجه حرب المنشورات التي شنت بغتة على الشباب المسلم، مكتفين بدحض الشبهات، ورد المفتريات، عالمين أن هناك نصارى كثيرين يريدون العيش مع إخوانهم المسلمين في سلام وتراحم، وأن محاولة البعض طعن الإسلام من الخلف هي تصرفات فردية يحمل وزرها أصحابها وحدهم.
ونحب قبل أن نبدأ النقاش في هذه القضية الأساسية أن نسجل مسلكًا إسلاميًا مقررًا: إن اختلاف الأديان لا يستلزم أبدًا إيغار الصدور وتنافر الود، وأنه في ظل مشاعر البر وقوانين العدالة يمكن لأتباع عقيدتين مختلفتين أن يعيشوا في وئام وتراحم!!
والانسجام المنشود بين أولئك الأتباع لا يعنى بداهة أن الفروق بين عقائدهم تلاشت..
وقد كان العرب الأولون يؤمنون بالله الواحد {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} (العنكبوت: 61).
{ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله} (العنكبوت: 63).
ولكنهم مع هذا الاعتراف بالله الواحد نسبوا إليه ولدًا يقصدون إليه ويتشفعون به! فرفض القرآن هذا النسب المختلق، وعد ذلك شركًا، وأنكره- في سورة مريم- أشد الإنكار {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدًا. تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا أن دعوا للرحمن ولدًا. وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدًا. إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدًا..} (مريم: 88- 93).
ومع هذا النكر الشديد لعقيدة التعدد في الآلهة، فقد أمر الله صاحب الرسالة أن يقول للمشركين {لكم دينكم ولى دين} (الكافرون: 6).
إذن نستطيع أن نوجد تلاقيًا ما بين أصحاب الأديان المختلفة، أما تذويب الفوارق بين التوحيد والتعدد كليهما، فذاك مستحيل..
كتب بعض الناس كلامًا يريد عقد لقاء بين عقيدة التوحيد الإسلامية وعقيدة التثليث المسيحية، فنفى أن يكون الله ثالث ثلاثة- كما ذكر القرآن الكريم- وقال إن الله الواحد هو جملة الأقانيم الثلاثة.
ولما كان كل أقنوم- على حدة- يسمى إلهًا، فإن الكاتب أراد أن يوضح هذا الغموض، ولا نقول يكشف هذا التناقض!! فقال- والكلام منقول عن مجلة توزع على طلاب كلية الهندسة بجامعة القاهرة- نثبته هنا بنصه:
إذن كيف نوفق بين هذا وذاك؟ بين ثلاثة ثم واحد؟..
إن هذا هو بيت القصيد وفحوى الحديث! وسوف أذكر مثالًا.. ماذا تعرف عن الشمس، الشمس الواحدة؟ أعرف أنها قرص، وحرارة، وأشعة.. وأى شيء من هذه الثلاثة هو الشمس؟ هل القرص، أم الحرارة، أو الأشعة ثلاثتهم يكونون الشمس! إذن الشمس واحدة، وهكذا الله سبحانه واحد، مع فارق التشبيه العظيم من حيث المكانة.
ونقف قليلًا لنذكر رأينا في هذا الكلام، إن الكائن الواحد قد تكون له عدة صفات، قد يكون طويل القامة أسمر اللون ذكى العقل.. ويمكن أن تنسب إليك صفات أخرى، فهل قلة الصفات أو كثرة الصفات تعنى تعددًا في الذات؟ وهل يجوز أن يطلق شخصك نفسه على صفة الطول أو السمرة أو الذكاء؟ وهل يتصور أن تنفصل إحدى الصفات المذكورة ليطلق عليها الرصاص، أو تتدلى من حبل المشنقة أو تسمر على خشبة الصليب؟
إن الشمس واحدة، ولكن استدارتها وحرارتها وإضاءتها وكثافتها.. إلخ صفات لها، أعراض لذاتها، والصفة لا تسمى ابنًا ولا خالًا ولا عمًا، ونحن نثبت للإله الواحد عشرات الأوصاف الجليلة، بيد أن إثبات الأوصاف شيء بعيد كل البعد عن القول بأن الأب هو الابن وهو الصديق، وأن خالق الكون هو هو الذي صلب على خشبة في أرضه.
إن التمثيل بالشمس وأوصافها الكثيرة لا يخدم قضية التثليث ولا التربيع في ذات الله.. والأمر لا يعدو لونًا من اللعب الألفاظ.
إن الله- خالق هذا العالم- واحد، وما عداه عين له أوجده من الصفر، ولن تنفك صفة العبودية عن أى موجود آخر، سواء كان «عيسى» أو «موسى» أو «محمد» أو غيرهم من أهل الأرض والسماء.
ونريد أن نسأل هذا: إذا كانت الشمس هي القرص والحرارة والأشعة فهل يمكن القول بأن الحرارة مثلًا ثلث الشمس؟
لا يقول هذا عاقل، لأن الصفة لا تكون قسيمًا للذات بتاتًا، هل يمكن القول بأن القرص شكا للأشعة ما نزل به من بلاء مثلًا!
ذاك ما لا يتصوره ذو لب..!!
إن هذا الكلام- كما قلت- لون من اللعب بالألفاظ، ولا يصور العلاقة بين أفراد الأقانيم الثلاثة كما رسمتها الأناجيل المقدسة..
وذكرت المجلة التي توزع على الطلاب «بكلية الهندسة» دليلًا آخر على أن التثليث هو التوحيد. قال الكاتب:
أقول لك أيضًا عن إنسان اسمه إبراهيم- إبراهيم هذا في بيته ووسط أولاده يدعى ربًا لأسرته وينادونه «يا أبانا يا إبراهيم»، هذا ذهب يومًا إلى البحر، فإذا الجموع محتشدة وإنسان يغرق وليس من ينقذه، فما كان منه إلا أن خلع ملابسه، وارتدى لباس البحر وأسرع وأنقذ الغريق، فهتف المتجمهرون: ليحيا المنقذ إبراهيم..
ذهب بعد ذلك إلى عمله، وإذ كان يعمل بالتدريس ويشرح للتلاميذ وصاروا ينادونه: المعلم إبراهيم. فأيهم إبراهيم: الأب أم المنقذ أم المعلم؟..
كلهم إبراهيم وإن اختلفت الألقاب مع الوظائف، وهكذا أيضًا الله خلق فهو الأب الله، الله أنقذ فهو الابن، الله يعلم فهو الروح!!
نقول: هذا الكلام أوغل من سابقه في خداع النظر، فإن الضابط قد يرتدى في الجيش ملابسه العسكرية، وقد يرتدى في عطلته الملابس المدنية، وقد يرتدى في بيته ملابس النوم. ولم يقل مجنون ولا عاقل أن هؤلاء ثلاثة، وأنهم واحد، ولا يتصور أحد أن الضابط بزيه العسكرى يصدر حكمًا بالإعدام على الضابط نفسه بزيه المدنى، وأن هذا المدنى يقول للعسكرى: لماذا قتلتنى أو لماذا تركتنى.
إن المعلم إبراهيم أو المنقذ إبراهيم أو الخالق إبراهيم يستحيل أن يكونوا ثلاثة أقانيم على النحو المألوف في المسيحية، وإنما المعقول أن يقال: الله الواحد يوصف بالقدرة والعلم والرحمة والحكمة مثلًا، وهذا يذكره الإسلام فالله ذات واحدة، لا تقبل التعدد بتة، والروح القدس وهو جبريل عبد مخلوق له، والمعلم المرشد الصالح عيسى عبد مخلوق له، وما دام العقل البشرى موجودًا فلن يسيغ إلا هذا.. أما الفرار من التناقض الحتم إلى التلاعب بالألفاظ فلا جدوى منه.
وإذا كان خالق السماء هو هو المقتول على الصليب فمن كان يدير العالم بعدما قتل خالقه؟ بل كيف يبقى العالم بعد أن ذهب موجده؟ والعالم إنما يبقى لأنه يستمد وجوده لحظة بعد أخرى من الحى القيوم جل جلاله.
إن القرآن الكريم ينصح أصحاب عقيدة التثليث فيقول لهم: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أنى يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلًا. لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون} (النساء: 171، 172).
وإنه ليسرنا أن تكون عقيدة التوحيد محور العلاقة بين الناس جميعًا وبين الله الواحد الأحد، لكن من المضحك المبكى أن يحاول البعض التشبث بالثالوث وبألوهية كل فرد من أفراده ثم يزعم بطريقة ما أن الثلاثة هم في الحقيقة واحد.
قيل في باب الفكاهة أن رجلًا جلس على قهوة ثم طلب «ينسونًا» وقبل أن يتناوله تركه وطلب بدله «شايًا» شربه ثم قام لينصرف.. فلما طولب بثمن الشاى الذي شربه قال: إنه بدل الينسون، فلما طولب بثمن الينسون قال: وهل شربته حتى أدفع ثمنه؟!
ويظهر أن هذا الاستدلال الفكاهى انتقل من ميدان المشروبات إلى ميدان العقائد، ليطمس الحقيقة ويسيغ المتناقضات.
وقصة ثالثة تنشرها المجلة المعلقة بكلية الهندسة- جامعة القاهرة هي عجيبة العجائب نثبتها هنا- على طولها- بعد النقلين الموجزين السابقين!!
عنوان القصة: «أنت تعبان والله مرتاح..»!!
والعنوان المذكور يحكى إجابة طريفة عن سبب الصلب.
والسؤال التقليدى في هذا الموضوع: لماذا قتل الإله الآب الإله الابن؟!
والجواب المعروف لدى إخواننا المسيحيين هو: الفداء لخطايا الخليقة.
لكن الكاتب الذكى- تمشيًا منه مع أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد- جعل القصة تدور حول هذا السؤال: لماذا قتل الإله نفسه؟ ولنذكر القصة برمتها: انتهت الحياة، وتزاحم الملايين من البشر في واد كبير أمام عرش الله، وكانت المقدمة من جماعات تتكلم بامتثال شديد دون خوف أو خجل، ولكن بطريقة عدوانية، حتى تقدمت الصفوف فتاة تصرخ: كيف يستطيع الله أن يحاكمنى؟! وماذا يعرف هو عن الآلام التي عانيتها؟!..
قالت هذا وهى تكشف عن رقم على ذراعها مدموغ بالحرق في أحد معسكرات التعذيب والإبادة النازية، ثم أردفت: لقد تحملت الضرب والتعذيب بل والقتل أيضًا..
وعلا صوت هادر من مجموعة أخرى قائلًا: وما رأيكم في هذا. وعلى أثر ذلك أزاح صاحب الصوت- وهو زنجى- ياقة قميصه كاشفًا عن أثر بشع لحبل حول عنقه وصاح من جديد: شنقت لا لسبب إلا أنى أسود.. لقد وضعنا كالحيوانات في سفن العبيد، بعد انتزاعنا من وسط أحبائنا، واستعبدنا، حتى حررنا الموت..
وعلى امتداد البعد كنت ترى المئات من أمثال هذه المجموعات، كل منها له دعوى ضد الله: بسبب الشر والعذاب اللذين سمح بهما في عالمه. كم هو مرفه هذا الإله! فهو يعيش في السماء حيث كل شيء مغلف بالجمال والنور، لا بكاء ولا أنين، لا خوف ولا جوع ولا كراهية، فماذا يعرف هو عما أصاب الإنسان وتحمله مكرهًا في هذا العالم؟..
حقًا، إن الله يحيا حياة ناعمة هانئة لا تعرف الألم..
وهكذا خرج من كل مجموعة قائد، كل مؤهلاته أنه أكثر من قاسى وتألم في الحياة، فكان منهم يهودى وزنجى وهندى ومنبوذ وطفل غير شرعى، وواحد من هيروشيما وآخر عبد من معسكرات المنفى والسخرة..
هؤلاء جميعًا اجتمعوا معًا يتشاورون، وبعد مدة كانوا على استعداد لرفع دعواهم، وكان جوهرها بسيطًا جدًا، قبل أن يصبح الله أهلًا لمحاكمتهم، عليه أن يذوق ما ذاقوا!!..
وكان قرارهم الحكم على الله أن يعيش على الأرض كإنسان، ولأنه إله، وضعوا شروطًا تضمن أنه لن يستخدم قوته الإلهية ليساعد نفسه، وكانت شروطهم: ينبغى أن يولد في شعب مستعمر ذليل ليكن مشكوكًا في شرعية ميلاده، فلا يعرف له أب، وكأنه وليد سفاح..
ليكن صاحب قضية عادلة حقيقية، لكنها متطرفة جدًا حتى تجلب عليه الكراهية والحقد والإدانة بل والطرد أيضًا من كل سلطاته الرئيسية التقليدية، ليحاول أن يصف للناس ما لم يره إنسان أو يسمع به، ولا لمسته يداه، ليحاول أن يعرف الإنسان بالله..
ليجعل أعز وأقرب أصدقائه يخونه ويخدعه، ويسلمه لمن يطلبونه، ليجعله يدان بتهم كاذبة، ويحاكم أمام محكمة متحيزة غير عادلة، ويحكم عليه قاض جبان..
ليذق ما معنى أن يكون وحيدًا تمامًا بلا رفيق في وسط أهله، منبوذًا من كل أحبائه، كل الأحباء..